نص الشبهة:
قال القائل بخلق القرآن:
قد وصف الله سبحانه وتعالى الذكر وهو القرآن بأنه محدث أي مخلوق وهذا نص صريح في أنه مخلوق.
نص الجواب:
قال أبوبكر المغربي:
أولا:
المراد من الذكر هنا المنكر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى سماه ذكرا في أواخر سورة يس فقال:
(إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) والواو تقتضي المغايرة فالذكر في آية يس ليس بمعنى
القرآن قطعا وإنما هو كلام الرسول. فيكون المعنى على هذا لا ياتيهم كلام من الرسول صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى أن يقوله إلا استمعوه وهم لاهون عنه، ومما
يؤيد هذا أن الله تعالى قال بعدها مباشرة: (هل هذا إلا بشر مثلكم).
ثانيا: أن المراد
بالذكر الموعظة فهذا أعم ويشمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ويشهد لهذا أن الله تعالى سمى المواعظ ذكرا في آيات كثيرة كقوله تعالى: (وذكر فإن
الذكرى تنفع المؤمنين)، ومما يشهد لهذين القولين الأولين أن الله تعالى لم يقل (ما
يأتيهم ذكر إلا كان محدثا). فدل على أن من
الذكر ما ليس بمحدث، وفي هذا يقول الإمام أبو الحسن الثعلبي في كتابه: "غاية
المرام في علم الكلام": (يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ _أي الذكر_ الْوَعْظ
والتذكير الْخَارِج عَن الْقُرْآن وَهُوَ الْأَقْرَب فَإِن الْقُرْآن لم يحدث
عِنْدهم لعبا وضحكا بل إفحاما وإشداها). هذا إذا حملنا معنى محدث على الخلق وسلمنا
بالقول الباطل أن كُل ما كان في وقت دون آخر فهو مخلوق من غير النظر إلى الفاعل.
فإن قيل إذا
فسرنا الذكر بالموعظة فهذا عام يشمل وعظ النبي ووعظ الله تعالى الذي هو القرآن فيكون اسم الحدث شاملا لهما معا، فنقول: جوابنا ما أجاب به إمام
السنة أحمد بن حنبل، ذكر الإمام أحمد في الرد على الجهمية استدلال الجهمية بهذه الآية ورد عليهم بإجابة
مطولة:
(اعلم أن الشيئين إذا اجتمعا في اسم يجمعهما
فكان أحدهما أعلى من الآخر، ثم جرى عليهما اسم مدح، فكان أعلاهما أولى بالمدح
وأغلب عليه، وإن جرى عليه اسم ذم فأدناهما أولى به، ومن ذلك قول الله تعالى في
كتابه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا
عِبَادُ اللَّهِ} يعني الأبرار دون الفجار، فإذا اجتمعوا في اسم الإنسان، واسم
العباد، فالمعنى في قوله الله جل ثناؤه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}
يعني الأبرار دون الفجار، لقوله إذا انفرد الأبرار: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي
نَعِيمٍ}.
وإذا انفرد
الفجار: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}.
وقوله:
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} فالمؤمن أولى به وإن اجتمعا في اسم
الناس، لأن المؤمن إذا انفرد أعطى المدحة لقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}. وإذا انفرد الكفار جرى
عليهم الذم في قوله: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، وقال: {أَنْ
سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}. فهؤلاء لا يدخلون
في الرحمة.
وفي قوله:
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ}.
فاجتمع
الكافر والمؤمن في اسم العبد، والكافر أولى بالبغي من المؤمنين؛ لأن المؤمنين
انفردوا ومدحوا فيما بسط لهم من الرزق، وهو وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}. وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
وقد بُسط الرزق لسليمان بن داود، ولذي القرنين، وأبي بكر، وعمر، ومن كان
على مثالهم ممن بسط له فلم يبغِ. وإذا انفرد الكافر وقع عليه اسم البغي في قوله
لقارون: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ}. ونمرود بن كنعان حين آتاه الله الملك فحاج في ربه،
وفرعون حين قال موسى: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً
وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. فلما اجتمعوا في الاسم الواحد فجرى
عليهم اسم البغي كان الكفار أولى به، كما أن المؤمن أولى بالمدح.
فلما قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ
مُحْدَثٍ}. فجمع بين ذكرين: ذكر الله، وذكر نبيه، فأما ذكر الله إذا انفرد لم يجرِ
عليه اسم الحدث، ألم تسمع إلى قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}. {وَهَذَا
ذِكْرٌ مُبَارَكٌ}.
وإذا انفرد ذكر النبي r فإنه جرى عليه اسم الحدث، ألم تسمع إلى قوله:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. فذكره r له عمل، والله له خالق محدث، والدلالة على أنه
جمع بين ذكرين لقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}.
فأوقع عليه الحدث عنه إتيانه إيانا، وأنت تعلم أنه لا يأتينا بالأنباء إلا مبلغ
ومذكر، وقال الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}، {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}. فلما اجتمعوا
في اسم الذكر، جرى عليهم اسم الحدث، وذكر النبي إذا انفرد وقع عليه اسم الخلق وكان
أولى بالحدث من ذكر الله الذي إذا انفرد لم يقع عليه اسم خلق، ولا حدث، فوجدنا
دلالة من قول الله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} إلى
النبي r لأن النبي r كان لا يعلم فعلمه الله، فلما علمه الله كان ذلك
محدثًا إلى النبي r).انتهى.
الرد على الجهمية ص80 - 82. كما ذكر هذين الوجهين في الآية ابن حجرعن ابن
بطال. انظر: فتح الباري 13/497.
ثالثا: أن
المراد بالذكر المنكر في الآية هو نفس الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى ما ياتيهم رسول محدث يدعوهم إلى التوحيد إلا واستمعوا لكلامه غافلين عنه
والله تعالى قد سمى الرسول في كتابه ذكرا فقال:
(قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليكم آيات الله) "فرسولا" بدل من
"ذكرا" بدل كل من كل وعلى هذا فالذكر في هذه الآية هو نفس الرسول.
قال الإمام
أبو الحسين العمراني الشافعي رحمه الله في كتابه "في الرد على المعتزلة
القدرية الأشرار":
(إنه لا يرد
بالذكر هاهنا القرآن، لأن كل ذكر في القرآن أراد به القرآن فإنه معرف بالألف
واللام أو ممدوح أو موصوف بأنه منزل ليفرق بينه وبين غيره بالذكر، فقال
تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقال: {ص والقرآن ذي الذكر}. وقال:
{ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم}، وقال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين
للناس}، وقال: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر}، وقال
{وهذا ذكر مبارك أنزلناه}، فذكر الذكر في هذه الآية منكرا إلا أنه مدحه بالبركة
ووصفه بأنه منزل ليدل على أنه القرآن.
وفي هذه الآية التي استدلوا بها ذكر منكر ولم يمدحه ولا وصفه بأنه منزل
ليدل على أنه غير القرآن فيحمل على أحد معنيين: إما على النبي r لأن الله سماه ذكرا بقوله تعالى: {قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا
يتلو عليكم}، ويدل على هذا التأويل أنه قال: {ما يأتيهم من ذكر} فذكر أن الذكر
يأتيهم، والذي يأتيهم بنفسه هو النبي r في المواعظ والتخويف من كلامه لا من كلام الله، ويدل على هذا أن
قريشا كانوا إذا سمعوا القرآن قسموا آراءهم فيه، ولم يقابلوه بالضحك واللعب. فدل
على أن الذي ضحكوا منه هو ذكر غير القرآن).
رابعا: أن المحدث يقع في اللغة على ما كان واضحا جليا وليس على المخلوق
فقط، ولهذا تقول العرب: أحدث الصيقلُ السيفَ والمرآةَ إذا جلاهما، وقال جرير:
ضربت عند الأمام فأرعشت ... يداك وقالوا محدث غير صارم
أي جلي غير قاطع.
فعلى هذا يكون المعنى أنه ما تاتيهم آية واضحة وبينة إلا وقابلوها بالإستهزاء وهذا المعنى أرجح في مقابلة قول المعتزلة وغيرهم لشواهد من الكتاب والسنة في أن القرآن واضح وبين وأنه غير مخلوق.
خامسا: أن المحدث يطلق في اللغة أيضا ويُراد به المُظهَر ولا يراد به
المخلوق بدليل ما أخبر الله عن الخضر أنه قال لموسى عليهما السلام: {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} يعني أظهر وأبدي لك لا
أن أخلق.
وهذا أيضا أرجح من المعنى الذي ذهبوا إليه، وذلك أن القرآن مظهر لخفايا وقد فضح ما كان يُضمره المنافقون، وهذا المعنى تشهد له آيات بخلاف ما ذهبوا إليه فتخالفه آيات
سادسا: إن قلنا
إن الذكر في الآية هو القرآن فهو محدث باعتبار نزوله وتلاوة جبريل له على النبي فالقرآن كما هو معلوم عند المسلمين لم ينزل جملة واحدة وإنما سورة تتلوها الأخرى فكلما جاءتهم سورة جديدة استمعوها
لاعبين.
وكما قال
الإمام الفقيه ابن الحاج في كتابه "حز الغلاصم في إفحام المخاصم":
(ولايشك
عَاقل أَن الْقُرْآن مُحدث التَّنْزِيل وَلم ينزل الْقُرْآن على مُحَمَّد r إِلَّا نجوما شَيْئا بعد شَيْء فِي نَيف وَعشْرين سنة
فَالله
يَقُول لنَبيه:
{مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان} {ووجدك ضَالًّا فهدى} وَقَوله بعد
النُّبُوَّة والرسالة {وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} حَتَّى نسخت بقوله
{إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} الْآيَات الواردات فِيهِ r وَفِي الْمُؤمنِينَ وَفِي الْمُشْركين إِلَى قَوْله {وَأعد لَهُم
جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} فَلَو كَانَت هَذِه الْآيَات نزلت عَلَيْهِ أَولا لما
قَالَ: {وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} وَهَذِه جَهَالَة من أهل الاعتزال
بِصِفَات ذِي الْجلَال والكمال).
سابعا: إن قلنا
إن محدث نعت للقرآن فالمعنى أن الله تعالى تكلم به بعد أن تكلم بالتوراة والإنجيل
وغيره من الكتب السابقة، والمحدث في اللغة يقال لما قابل القديم فيقال للشيء الذي
يقابل ما تقدمه محدث، فتَكلُّمُ الله سبحانه وتعالى بالقرآن كان محدثا في مقابل تكلمه بالتوراة والإنجيل.
ثامنا: نقول
لمن لا يفهم من كلمة الذكر إلا القرآن ولا يفهم من كلمة محدث إلا مخلوق هل تلتزمون
بذلك فتقولون إن الخضر عنى بقوله عندما قال لموسى عليهما السلام:
{فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}. أي حتى
أخلق لك قرآنا، وهل تقولون في قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه
من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) أي أن
القرآن يخلق قرآنا، فإن لم تلتزموا بذلك في هاتين الآيتين فلا إلزام في آيتنا هذه.
تاسعا: نقول
للمعتزلة ومن استدل بهذه الآية على خلق القرآن: إن هذه الآية حجة عليك، فإنه
لما قال سبحانه وتعالى:
"ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث" عُلِم أن الذكر منه محدث ومنه ما ليس
بمحدث، لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال قائل: ما
يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاماً حلالاً ونحو ذلك، عُلم أن من
الرجال من ليس بمسلم ومن الأطعمة ما ليس بحلال.
ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي
يقوله المعتزلة ولكنه الذي أنزل جديداً، فإن الله سبحانه وتعالى كان يُنزل القرآن شيئاً بعد شيء، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة
إلى المنزل آخراً، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال عز وجل:
"كالعرجون القديم" وقال: "تالله إنك لفي ضلالك القديم" وقال:
"وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم" وقال: "أفرأيتم ما كنتم
تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون".
عاشرا: نختم
بكلام ابن بطة رحمه الله:
(ثم إن الجهمي إذا بطلت حجته فيما ادعاه ادعى أمرًا آخر، فقال: إنا أجد في الكتاب
آية تدل على أن القرآن مخلوق، فقيل: أية آية هي؟
قال: قول
الله عز وجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}.
أفلا ترون
أن كل محدث مخلوق؟
فوَهَّم على
الضعفاء والأحداث وأهل الغباوة وموّه عليهم، فيقال له: إن الذي لم يزل به عالما لا
يكون محدثًا، فعلمه أزلي كما أنه هو أزلي، وفعله مضمر في علمه، وإنما يكون محدثًا
ما لم يكن به عالِمًا حتى علمه فيقول: إن الله U لم يزل عالِمًا بجميع ما في القرآن قبل أن ينزل القرآن، وقبل أن يأتي
به جبريل وينزل به على محمد r
وقد قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قبل أن يخلق آدم. وقال: {إِلاَّ
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. يقول: كان إبليس في
علم الله كافرًا قبل أن يخلقه، ثم أوحى بما قد كان علمه من جميع الأشياء. وقد
أخبرنا عز وجل عن القرآن، فقال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فنفى عنه أن
يكون غير الوحي، وإنما معنى قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ
مُحْدَثٍ} أراد: محدثًا علمه وخبره وزجره وموعظته عند محمد r وإنما أراد: أن عِلمك يا محمد ومعرفتك محدث بما أوحى إليك من القرآن،
وإنما أراد: أن نزول القرآن عليك يحدث لك ولمن
سمعه علم وذكر لم تكونوا تعلمونه.
ألم تسمع إلى قوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلا الإِيمَانُ} وقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ
ذِكْرًا}. فأخبر أن الذكر المحدث هو ما يحدث من سامعين وممن علّمه وأنزل عليه إلا
أن القرآن محدث عند الله، ولا أن الله كان ولا قرآن؛ لأن القرآن إنما هو من علم
الله، فمن زعم أن القرآن هو بعده فقد زعم أن الله كان ولا علم ولا معرفة عنده بشيء
مما في القرآن ولا اسم له ولا عزة له ولا صفة له حتى أحدث القرآن. ولا نقول: إنه
فعل الله، ولا يقال: كان الله قبله، ولكن نقول: إن الله لم يزل عالِمًا، لا متى
علم، ولا كيف علم، وإنما وهمت الجهمية الناس ولبست عليهم بأن يقول أليس الله الأول
قبل كل شيء، وكان ولا شيء، وإنما المعنى في كان الله قبل كل شيء، قبل السموات
وقبل الأرضين، وقبل كل شيء مخلوق، فأما أن نقول قبل علمه وقبل قدرته وقبل حكمته
وقبل عظمته وقبل كبريائه وقبل جلاله وقبل نوره، فهذا كلام الزنادقة.
وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فإنما هو
ما يحدّث الله عند نبيه وعند أصحابه والمؤمنين من عباده، وما يحدثه عندهم من العلم
وما لم يسمعوه، ولم يأتهم به كتاب قبله ولا جاءهم به رسول.
ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} وإلى قوله فيما
يحدث القرآن في قلوب المؤمنين إذا سمعوه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
الْحَقِّ} فأعلمنا أن القرآن يحدث نزوله لنا علمًا وذكرًا وخوفًا، فعلم نزوله محدث
عندنا، وغير محدث عند ربنا عز وجل). انتهى.
فمع كل هذه
الإحتمالات اليقينية القوية الجلية التي قيلت في الآية وغيرها كثير حيث يصير
الإستدلال بها في خلق القرآن أضعف من الضعيف وأهون من خيط العنكبوت ألا يجعل الآية
أقل ما يُقال فيها إنها متشابهة؟؟ والآيات الدالة على أنه غير مخلوق صريحة ومحكمة؟؟
كقوله I:
(وكلم الله موسى تكليما)، (وكلمه ربه)، (حتى يسمع كلام الله)، وغيرها كثير.
0 التعليقات: